سورة النمل - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


اختلف الناس في معنى {تفقده الطير}، فقالت فرقة ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والتهمم بكل جزء منها.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر الآية أنه تفقد جميع الطير، وقالت فرقة: بل {تفقد الطير} لأن الشمس دخلت من موضع {الهدهد} حين غاب، فكان ذلك سبب تفقد الطير ليبين من أين دخلت الشمس، وقال عبد الله بن سلام إنما طلب {الهدهد} لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كَم هو من وجه الأرض، لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن {الهدهد} كان يرى باطن الأرض وظاهرها كانت تشف له وكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ شاة قاله ابن عباس فيما روي عن أبي سلام وغيره، وقال في كتاب النقاش كان {الهدهد} مهندساً، وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يقول هذا فقال له: قف يا وقاف كيف يرى {الهدهد} باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه. فقال له ابن عباس رضي الله عنه: إذا جاء القدر عمي البصر. وقال وهب بن منبه: كانت الطير تنتاب سليمان كل يوم من كل نوع واحد نوبة معهودة ففقد {الهدهد}، وقوله {ما لي لا أرى} إنما مقصد الكلام {الهدهد} غاب لكنه أخذ اللام عن مغيبه وهو أن لا يراه فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم، وهذا ضرب من الإيجاز، والاستفهام الذي في قوله {ما لي}، ناب مناب الألف التي تحتاجها أم، ثم توعده عليه السلام بالعذاب، وروي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن تنتف، قال ابن جريج: ريشه أجمع، وقال يزيد بن رومان: جناحاه، وروي ابن وهب أنه بأن تنتف أجمع وتبقى بضعة تنزو، والسلطان الحجة حيث وقع في القرآن، قاله عكرمة عن ابن عباس، وقرأ ابن كثير وحده {ليأتينني} بنونين، وفعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظاً عن العاصين وعقاباً على إخلاله بنوبته ورتبته، وقرأ جمهور القراء، {فمكُث} بضم الكاف، وقرأ عاصم وحده {فمكَث} بفتحها، ومعناه في القراءتين أقام، والفتح في الكاف أحسن لأنها لغة القرآن في قوله {ماكثين} [الكهف: 3] إذ هو من مكَث بفتح الكاف، ولو كان من مكُث بضم الكاف لكان جمع مكيث، والضمير في مكث يحتمل أن يكون لسليمان أو ل {الهدهد}، وفي قراءة ابن مسعود {فتمكث ثم جاء فقال} وفي قراءة أبي بن كعب {فتمكث} ثم قال: {أحطت} وقوله {غير بعيد} كما في مصاحف الجمهور يريد به في الزمن والمدة، وقوله {أحطت} أي علمت علماً تاماً ليس في علمك، واختلف القراء في {سبأ}، فقرأ جمهور القراء {سبأ} بالصرف.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {سبأ} بفتح الهمزة وترك الصرف، وقرأ الأعمش {من سبإ} بالكسر وترك الصرف وروى ابن حبيب عن اليزيدي {سبا} بألف ساكنة، وقرأ قنبل عن النبال بسكون الهمزة، فالأولى على أنه اسم رجل وعليه قول الشاعر: [البسيط]
الواردون وتيم في ذرى سبإ *** قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس
وقال الآخر: من سبأ الحاضرين مآرب، وهذا على أنها قبيلة والثانية على أنها بلدة، قاله الحسن وقتادة، وكلا القولين قد قيل، ولكن روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث فروة بن مسيك وغيره أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد تيامن منهم ستة، وتشاءم أربعة، وخفي هذا الحديث على الزجاج فخبط عشوى، والثالثة على البناء والرابعة والخامسة لتوالي الحركات السبع فسكن تخفيفاً للتثقيل في توالي الحركات، وهذه القراءة لا تبنى على الأولى بل هي إما على الثانية أو الثالثة، وقرأت فرقة {بنبأ} وقرأت فرقة دون تنوين على الإضافة، وقرأت فرقة {بنبا} بالألف مقصورة وقوله {وأوتيت من كل شيء} مبالغة أي مما تحتاج المملكة قال الحسن: من كل أمر الدنيا، ووصف عرشها بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان، وروي عن نافع الوقف على {عرش} ف {عظيم} على هذا يتعلق بما بعده، وهذه المرأة هي بلقيس بنت شراحيل فيما قال بعضهم، وقيل بنت الفشرح، وقيل كانت أمها جنية، وأكثر بعض الناس في قصصها بما رأيت اختصاره لعدم صحته وإنما اللازم من الآية أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن ذات ملك عظيم وكانت كافرة من قوم كفار.


كانت هذه الأمة أمة تعبد الشمس لأنهم كانوا زنادقة فيما روي، وقيل كانوا مجوساً يعبدون الأنوار، وقوله {ألا يسجدوا} إلى قوله {العظيم} ظاهره أنه من قول الهدهد، وهو قول ابن زيد وابن إسحاق ويعترض بأنه غير مخاطب، فكيف يتكلم في معنى شرع، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى اعتراضاً بين الكلامين وهو الثابت مع التأمل، وقراءة التشديد في {ألاَّ} تعطي أن الكلام للهدهد، وقراءة التخفيف تمنعه وتقوي الآخر حسبما يتأمل إن شاء الله، وقرأ جمهور القراء {ألا يسجدوا} ف أن في موضع نصب على البدل من {أعمالهم} وفي موضع خفض على البدل من {السبيل} أو يكون التقدير لأن لا يسجدوا فـ أن متعلقة إما بـ زين وإما بـ صدهم، واللام الداخلة على أن داخلة على مفعول له، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر والزهري وأبو عبد الرحمن والحسن والكسائي وحميد: {ألا} على جهة الاستفتاح ووقف الكسائي من هذه الفرقة على يا، ثم يبتدئ اسجدوا، واحتج الكسائي لقراءته هذه بأنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه موضع سجدة.
قال القاضي أبو محمد: وهذه القراءة مقدر فيها النداء والمنادى محذوف تقديره إن جعلناه اعتراضاً يا هؤلاء ويجيء موضع سجدة، وإن جعلناه من كلام الهدهد يا قوم أو يا عقلاء ونحو هذا ومنه قول الشاعر:
ألا يا سلمي يا دار ميَّ على البلا ***
إلخ البيت، ونحو قول الآخر وهو الأخطل: [الطويل]
ألا يا أسلمي يا هند هند بني بدر *** وإن كان حيانا عدًى آخر الدهر
ومنه قول الآخر:
فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطة *** فقلت سمعنا فاسمعي واصمتي
ويحتمل قراءة من شدد: {ألاَّ} أن يجعلها بمعنى التخصيص، ويقدر هذا النداء بعدها ويجيء في الكلام إضمار كثير ولكنه متوجه، وسقطت الألف كما كتبت في يا عيسى ويا قوم، وقرأ الأعمش {هل لا يسجدون}، وفي حرف عبد الله بن معسود {ألا هل تسجدون} بالتاء، وفي قراءة أبيّ: {ألا هل تسجدوا} بالتاء أيضاً، و{الخبء} الخفي من الأمور وهو من خبأت الشيء، وخبء السماء مطرها، وخبء الأرض كنوزها ونباتها، واللفظة بعد هذا تعم كل خفيّ من الأمور وبه فسر ابن عباس، وقرأ جمهور الناس {الخبْء} بسكون الباء والهمز، وقرأ أبي بن كعب {الخبَ}، بفتح الباء وترك الهمز، وقرأ عكرمة {الخبا} بألف مقصورة، وحكى سيبويه أن بعض العرب يقلب الهمزة إذا كانت في مثل هذا مفتوحة وقبلها ساكن يقلبها ألفاً، وإذا كانت مضمومة وقبلها ساكن قلبها واواً، وإذا كانت مكسورة قلبها ياء ومثل سيبويه ذلك بالوثا والوثو والوثي، وكذلك يجيء {الخبء} في حال النصب وتقول اطلعت على الخبي وراقني الخبو وقرأ جمهور القراء {يخفون} و{يعلنون} بياء الغائب.
قال القاضي أبو محمد: وهذه القراءة تعطي أن الآية من كلام الهدهد، وقرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص {تخفون وما تعلنون} بتاء الخطاب، وهذه القراءة تعطي أن الآية من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف أبي بن كعب {ألا يسجدوا والله الذي يخرج الخبء من السماوات والأرض ويعلم سركم وما تعلنون}، وخصص {العرش} بالذكر في قوله {رب العرش العظيم} لأنه أعظم المخلوقات، وما عداه في ضمنه وقبضته، ثم إن سليمان عليه السلام أخَّر أمر الهدهد إلى إن يبين له حقه من باطله فسوفه بالنظر في ذلك وأمر بكتاب فكتب وحمله إياه وأمره بإلقائه إلى القوم والتولي بعد ذلك، وقال وهب بن منبه أمره بالتولي حسن أدب، ليتنحى حسبما يتأدب به مع الملوك بمعنى وكن قريباً حتى ترى مراجعاتهم، وقال ابن زيد: أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه أي ألقه وارجع، قال وقوله {فانظر ماذا يرجعون} في معنى التقديم على قوله {ثم تول}.
قال القاضي أبو محمد: واتساق رتبه الكلام أظهر أي ألقه ثم تول وفي خلال ذلك {فانظر} وإنما أراد أن يكل الأمر إلى علم ما في الكتاب دون أن تكون للرسول ملازمة ولا إلحاح.
وقرأ نافع {فألقِه} بكسر الهاء، وفرقة {فألقهُ} بضمها، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي بإشباع ياء بعد الكسرة في الهاء، وروى عنه ورش بياء بعد الهاء في الوصل، وقرأ قوم بإشباع واو بعد الضمة، وقرأ البزي عن أبي عمرو وعاصم وحمزة {فألقهْ} بسكون الهاء، وروي عن وهب بن منبه في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى دون هذه الملكة حجب جدرات فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عن طلوعها لمعنى عبادتها إياها فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهي فيما يروى نائمة، فلما انتبهت وجدته فراعها وظنت أنه قد دخل عليها أحد ثم قامت فوجدت حالها كما عهدته فنظرت إلى الكوة تهمماً بأمر الشمس فرأت الهدهد فعلمت أمره ثم جمعت أهل ملكها وعلية قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد.


في هذا الموضع اختصار لما يدل ظاهر القول عليه تقديره فألقى الكتاب وقرأته وجمعت له أهل ملكها، و{الملأ} أشراف الناس الذين ينوبون مناب الجميع، ووصفت الكتاب بالكرم إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالاً لسليمان، وهذا قول ابن زيد، وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كرم الكتاب ختمه» وإما إن أرادت أنه بدئ {بسم الله} ف {كريم} ضد أجْذم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل كلام لم يبدأ باسم الله تعالى فهو أجذم»، ثم أخذت تصف لهم ما في الكتاب فيحتمل اللفظ أنه نص الكتاب موجزاً بليغاً وكذلك كتب الأنبياء وقدم فيه العنوان وهي عادة الناس على وجه الدهر، ثم سمى الله تعالى، ثم أمرهم بأن لا يعلوا عليه طغياناً وكفراً وأن يأتوه {مسلمين}، ويحتمل أنها قصدت إلى اقتضاب معانيه دون ترتيبه فأعلمتهم {أنه من سليمان} وأن معنى ما فيه كذا وكذا، وقرأ أبيّ {وأن بسم الله} بفتح الهمز وتخفيف النون وحذف الهاء، وقرأ ابن أبي عبلة {أنه} من وأنه بفتح الهمزة فيهما، وفي قراءة عبد الله {وأنه من سليمان} بزيادة، و{بسم الله الرحمن الرحيم}، استفتاح شريف بارع المعنى معبر عنه بكل وفي كل شرع، و{أن} في قوله تعالى: {أن لا تعلوا علي} يحتمل أن تكون رفعاً على البدل من {كتاب}، أو نصباً على معنى بأن لا تعلوا، أو مفسرة بمنزلة أي قاله سيبويه، وقرأ وهب بن منبه {أن لا تغلوا} بالغين منقوطة، قال أبو الفتح رواها وهب عن ابن عباس وهي قراءة الأشهب العقيلي ذكرها الثعلبي ثم أخذت في حسن الأدب مع رجالها ومشاورتهم في أمرهم وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر فكيف في هذه النازلة الكبرى، فراجعها الملأ بما يقر عينها من إعلامهم إياها ب القوة والبأس أي وذلك مبذول إليك فقاتلي إن شئت، ثم سلموا الأمر إلى نظرها وهذه محاورة حسنة من الجميع، وفي قراءة عبد الله {ما كنت قاضية أمراً} بالضاد من القضاء، وذكر مجاهد في عدد أجنادها أنها كان لها اثنا عشر ألفاً، قيل تحت يد كل واحد منهم مائة ألف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، وذكر غيره نحوه فاختصرته لبعد الصحة عنه، ثم أخبرت بلقيس عند ذلك بفعل {الملوك} بالقرى التي يتغلبون عليها، وفي الكلام خوف على قومها وحيطة لهم واستعظام لأمر سليمان عليه السلام، وقالت فرقة إن {وكذلك يفعلون} من قول بلقيس تأكيداً منها للمعنى الذي أرادته، وقال ابن عباس: هو من قول الله تعالى معرفاً لمحمد عليه السلام وأمته ومخبراً به.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7